قصص رواها النبي صلى الله عليه و سلم ...ليلة القدر
الحمد لله رب العالمين، وأصلي وأسلم على المبعوث رحمةً للعالمين، سيدنا ونبينا محمد وعلى آله وصحبه أجمعين ..
المستمعون الأكارم .. السلام عليكم ورحمة الله وبركاته ، وأسعد الله أوقاتكم بكل خير .
هذا هو اللقاء العشرون .. نلتقي بعبادةَ بنِ الصامت ليحدثنا عن أمر وقصة أخبر بها النبي صلى الله عليه و سلم ، قال عليه الصلاة :«إِنِّي خَرَجْتُ لِأُخْبِرَكُمْ بِلَيْلَةِ الْقَدْرِ ، وَإِنَّهُ تَلَاحَى فُلَانٌ وَفُلَانٌ فَرُفِعَتْ –وهذه هي القصة : تَلَاحَى فُلَانٌ وَفُلَانٌ فَرُفِعَتْ- قال: وَعَسَى أَنْ يَكُونَ خَيْرًا لَكُمْ ، الْتَمِسُوهَا فِي السَّبْعِ وَالتِّسْعِ وَالْخَمْسِ» .
أخرجه البخاري رحمه الله . وهو عند غيره ، ولكنَّ الحديثَ إذا كان في الصحيحين أو في أحدهما اكتفيت بالعزو إليهما .
هذه القصة اشتملت على غريب وفوائد ..
أما الغريب والكلمات التي تحتاج إلى شرح فهي كلمة واحدة (تلاحى) ، ومعناها : تخاصم .
والرجلان : قال في الفتح :" قِيلَ هُمَا عَبْد اللَّه بْن أَبِي حَدْرَد ، وَكَعْب بْن مَالِكٍ . ذَكَرَهُ اِبْن دِحْيَةَ وَلَمْ يَذْكُرْ لَهُ مُسْتَنَدًا".
وأما ليلة القدر فسميت بذلك لأمور :
1/ أن الأمور تُقدر فيها . قال تعالى : }فيها يُفرق ...{
2/ أنها ذات قدْر وشرف . ومن عبد الله فيها كان ذا قدر .
3/ لأن الأرض تضيق بالملائكة ، قال تعالى :} فَظَنَّ أَنْ لَنْ نَقْدِرَ عَلَيْهِ { يعني : لن نضيِّقَ عليه .
4/ ولأن من لم يكن ذا قدر صار بقيامها والعبادة فيها ذا قدر.
5/ ولأنه نزل فيها كتاب ذو قدر ، على أمة ذاتِ قدر ، بواسطة ملَك ذي قدر .
***
بقي أن أقف مع فوائد هذه القصة ، فالقصة هذه مع قصرها :« تَلَاحَى فُلَانٌ وَفُلَانٌ فَرُفِعَتْ» فقد حوت الكثيرَ من الفوائدِ . أذكر منها إحدى عشرة فائدة:
الأولى :
حرص النبي صلى الله عليه و سلم على ما ينفعنا ، فقد خرج ولاهمّ له إلا أن يطلع الناس على موعد ليلة القدر . فهو من قال الله تعالى عنه :} لَقَدْ جَاءكُمْ رَسُولٌ مِّنْ أَنفُسِكُمْ عَزِيزٌ عَلَيْهِ مَا عَنِتُّمْ حَرِيصٌ عَلَيْكُم بِالْمُؤْمِنِينَ رَؤُوفٌ رَّحِيمٌ{ .
ولقد قال صلى الله عليه و سلم :«إِنَّمَا مَثَلِي وَمَثَلُ أُمَّتِي كَمَثَلِ رَجُلٍ اسْتَوْقَدَ نَارًا ، فَجَعَلَتْ الدَّوَابُّ وَالْفَرَاشُ يَقَعْنَ فِيهِ ، فَأَنَا آخِذٌ بِحُجَزِكُمْ ، وَأَنْتُمْ تَقَحَّمُونَ فِيهِ» [أخرجه الشيخان] . فجزاه الله عنا خير ما جزى نبياً عن أمته .
الثانية :
أنّ النبي صلى الله عليه و سلم والصحابة لا يعلمون الغيب . ومن المقرر في عقائد المسلمين أن الأنبياء لا يعلمون من الغيب إلا القدر الذي أذن الله فيه ، قال تعالى :} عَالِمُ الْغَيْبِ فَلَا يُظْهِرُ عَلَى غَيْبِهِ أَحَدًا * إِلَّا مَنِ ارْتَضَى مِن رَّسُولٍ فَإِنَّهُ يَسْلُكُ مِن بَيْنِ يَدَيْهِ وَمِنْ خَلْفِهِ رَصَدًا{ . وقال عن سيدنا ونبينا عليه الصلاة و السلام :} وَلَوْ كُنتُ أَعْلَمُ الْغَيْبَ لاَسْتَكْثَرْتُ مِنَ الْخَيْرِ وَمَا مَسَّنِيَ السُّوءُ إِنْ أَنَاْ إِلاَّ نَذِيرٌ وَبَشِيرٌ لِّقَوْمٍ يُؤْمِنُونَ{ . وهل أدلُّ على ذلك من قصة الإفك التي ترك فيها زوجَه عائشة رضي الله عنها في الفلاة لوحدها ؟
الثالثة :
أنّ الخصومة بين الناس فسادٌ وشر . ومن شؤمها أنّ الله تعالى لم يطلعنا على زمن هذه الليلة بسببها . قال الإمام البخاري في تبويب هذا الحديث :" بَابُ رَفْعِ مَعْرِفَةِ لَيْلَةِ الْقَدْرِ لِتَلَاحِي النَّاسِ". وقد بينت النصوص الصحيحة أنّ لها آثاراً سيئة على الفرد والجماعة ..
فمن شؤمها أنّ أصحابها محجوبون عن المغفرة التي تكون ليلة النصف من شعبان . فلقد ثبت عن نبينا صلى الله عليه و سلم أنه قال :«إِنَّ اللَّهَ لَيَطَّلِعُ فِي لَيْلَةِ النِّصْفِ مِنْ شَعْبَانَ على جميع خلقه ، فَيَغْفِرُ لِجَمِيعِ خَلْقِهِ إِلَّا لِمُشْرِكٍ أَوْ مُشَاحِنٍ» .
ومما يجلي ذلك كذلك هذا الحديث ، قال صلى الله عليه و سلم :« تُعْرَضُ الْأَعْمَالُ فِي كُلِّ يَوْمِ خَمِيسٍ وَاثْنَيْنِ ، فَيَغْفِرُ اللَّهُ عَزَّ وَجَلَّ فِي ذَلِكَ الْيَوْمِ لِكُلِّ امْرِئٍ لَا يُشْرِكُ بِاللَّهِ شَيْئًا ، إِلَّا امْرَأً كَانَتْ بَيْنَهُ وَبَيْنَ أَخِيهِ شَحْنَاءُ ، فَيُقَالُ : اترْكُوا هَذَيْنِ حَتَّى يَصْطَلِحَا ، اترْكُوا هَذَيْنِ حَتَّى يَصْطَلِحَا» [أخرجه مسلم] .
ومن هذه الآثار السيئة أنّها تذهب بدين الإنسان ، قال نبينا صلى الله عليه و سلم :« فَسَادَ ذَاتِ الْبَيْنِ هِيَ الْحَالِقَةُ ، لا أقول تحلق الشعر ، ولكن تحلق الدين» .
فعلى المسلم أن يبادر بالعفو عن إخوانه طلباً لمرضاة ربه ، أما يكفيك قول الله تعالى للصديق الأكبر .. لسيد الأولياء أبي بكر الصديق رضي الله عنه :} وَلَا يَأْتَلِ أُوْلُوا الْفَضْلِ مِنكُمْ وَالسَّعَةِ أَن يُؤْتُوا أُوْلِي الْقُرْبَى وَالْمَسَاكِينَ وَالْمُهَاجِرِينَ فِي سَبِيلِ اللَّهِ وَلْيَعْفُوا وَلْيَصْفَحُوا أَلَا تُحِبُّونَ أَن يَغْفِرَ اللَّهُ لَكُمْ وَاللَّهُ غَفُورٌ رَّحِيمٌ{
ما انتهى أبو بكر رضي الله عنه من سماعها إلا قال :" بَلَى ، وَاللَّهِ إِنِّي أُحِبُّ أَنْ يَغْفِرَ اللَّهُ لِي" . فَرَجَعَ إِلَى مِسْطَحٍ النَّفَقَةَ الَّتِي كَانَ يُنْفِقُ عَلَيْهِ وَقَالَ : "وَاللَّهِ لَا أَنْزِعُهَا مِنْهُ أَبَدًا" [أخرجاه في الصحيحين] .
الرابعة :
لا يُعلم وقتُ ليلة القدر تحديداً كما دل عليه هذا الحديث ، ولكن دلت السنة الصحيحة عن رسول الله صلى الله عليه و سلم على أنها في العشر الأخيرة من رمضان ، ففي صحيح مسلم قال رسول الله صلى الله عليه و سلم :« الْتَمِسُوهَا فِي الْعَشْرِ الْأَوَاخِرِ ، فَإِنْ ضَعُفَ أَحَدُكُمْ أَوْ عَجَزَ فَلَا يُغْلَبَنَّ عَلَى السَّبْعِ الْبَوَاقِي» . وفي الصحيحين قال :«الْتَمِسُوهَا فِي الْعَشْرِ الْأَوَاخِرِ مِنْ رَمَضَانَ» . فينبغي أن يلتمسها المسلم في العشر كلها . لأن قوله عليه الصلاة و السلام :« الْتَمِسُوهَا فِي السَّبْعِ وَالتِّسْعِ وَالْخَمْسِ» محتمل لأمرين .
قال ابن حجر رحمه الله :" يَحْتَمِل أَنْ يُرِيد بِالتَّاسِعَةِ تَاسِع لَيْلَة مِنْ الْعَشْر الْأَخِير ، فَتَكُونَ لَيْلَةَ تِسْع وَعِشْرِينَ ، وَيَحْتَمِل أَنْ يُرِيد بِهَا تَاسِع لَيْلَةٍ تَبْقَى مِنْ الشَّهْر فَتَكُون لَيْلَة إِحْدَى أَوْ اِثْنَيْنِ بِحَسَبِ تَمَام الشَّهْر وَنُقْصَانِهِ... وفي المسند فِي :«تَاسِعَةٍ تَبْقَى » ". ولذا ينبغي الاجتهاد في العشر كلها.
الخامسة :
لا يمكن أن يقدر الله شراً محضاً ، ففي هذه القصة قال النبي صلى الله عليه و سلم :« فَرُفِعَتْ ، وَعَسَى أَنْ يَكُونَ خَيْرًا لَكُمْ» ، وهذا معنى قول نبينا صلى الله عليه و سلم :«والشر ليس إليك» .
السادسة :
أنّ في رفع ليلة القدر خيراً . ولعل الحكمة في رفع ليلة القدر – أقصد رفعَ تعيينها- أن يجتهد الإنسان في العشر كلها فيكونَ ذلك خيراً له . كما أخفى على الإنسان وقت موته لشغل كل وقته بطاعة الله . قال ابن حجر رحمه الله في الفتح :" فَعَسَى أَنْ يَكُون خَيْرًا " فَإِنَّ وَجْهَ الْخَيْرِيَّةِ مِنْ جِهَة أَنَّ خَفَاءَهَا يَسْتَدْعِي قِيَام كُلّ الشَّهْر أَوْ الْعَشْرِ ، بِخِلَافِ مَا لَوْ بَقِيَتْ مَعْرِفَةُ تَعْيِينِهَا".
السابعة :
أنّ من علم بليلة القدر فالسنة أن لا يخبرَ بها ، لئلا يتكاسل الناس بقية الشهر ، ولأن علمه لا يعدو أن يكون ظناً . وقد أشار في الفتح لهذه الفائدة .
الثامنة :
تقدير الأمور بأسبابها ، قال :«تلاحى فرفعت» .
التاسعة :
تسلية من فاته خيرٌ يرجوه . لقول النبي صلى الله عليه و سلم :« وَعَسَى أَنْ يَكُونَ خَيْرًا لَكُمْ» .
العاشرة :
أهمية تحري ليلة القدر .
وهذا التحري لتلك الليلة لما للعبادة من أجر عظيم فيها ، قال تعالى :} ليلة القدر خير من ألف شهر{ . أي : العبادة فيها خير من عبادة ألف شهر ليس فيها ليلة القدر . وقد ثبت في الصحيحين قول نبينا صلى الله عليه و سلم :«من قام ليلة القدر إيماناً واحتساباً غُفر له ما تقدم من ذنبه» . ومن حكم الاعتكاف في العشر : أنه يعين على تحري ليلةِ القدر .
واعلم أيها المستمع الكريم – وفقك الله- أنّ هذه الليلة لها علامات ثابتة في السنة النبوية ..
منها : ما جاء في حديث رسول الله صلى الله عليه و سلم :«تَطْلُعُ الشَّمْسُ فِي صَبِيحَةِ يَوْمِهَا بَيْضَاءَ لَا شُعَاعَ لَهَا» . وثبت عن ابن عباس رضي الله عنهما أن رسول الله صلى الله عليه و سلم قال في ليلة القدر : « ليلةٌ سَمْحَةٌ طَلِقَةٌ ، لا حارةٌ ولا باردةٌ ، تُصبحُ الشمسُ صبيحتها ضعيفةً حمراءَ» [أخرجه ابن خزيمة والبزار] .
فهي ليلة يضاعف ثواب العمل فيها ، وليست نوراً يأتي للإنسان كما تتوهمه بعض النساء .
الفائدة الأخيرة :
أن من عقيدة أهل السنة – وهنا أشير إلى أني لا أقصد بأهل السنة جماعةً .. فأعوذ بالله أن أدعو إلى جماعة أو حزب أو طائفة أو جمعية، وإنما أُريد بهم من أخذ بالسنة وتمسك بها كما عرفهم ابن تيمية رحمه الله – أقول من عقيدتهم عدم عصمة الصحابة ، وسوف لن أجد هنا كلاماً أنقله أفضل من كلام الإمام ابن تيمية رحمه الله :" وَهُمْ مَعَ ذَلِكَ لَا يَعْتَقِدُونَ أَنَّ كُلَّ وَاحِدٍ مِنْ الصَّحَابَةِ مَعْصُومٌ عَنْ كَبَائِرِ الْإِثْمِ وَصَغَائِرِهِ ؛ بَلْ تَجُوزُ عَلَيْهِمْ الذُّنُوبُ فِي الْجُمْلَةِ ، وَلَهُمْ مِنْ السَّوَابِقِ وَالْفَضَائِلِ مَا يُوجِبُ مَغْفِرَةَ مَا يَصْدُرُ مِنْهُمْ إنْ صَدَرَ ، حَتَّى إنَّهُ يُغْفَرُ لَهُمْ مِنْ السَّيِّئَاتِ مَا لَا يُغْفَرُ لِمَنْ بَعْدَهُمْ ؛ لِأَنَّ لَهُمْ مِنْ الْحَسَنَاتِ الَّتِي تَمْحُو السَّيِّئَاتِ مَا لَيْسَ لِمَنْ بَعْدَهُمْ ، وَقَدْ ثَبَتَ بِقَوْلِ رَسُولِ اللَّهِ صلى الله عليه و سلم " إنَّهُمْ خَيْرُ الْقُرُونِ " " وَإِنَّ الْمُدَّ مِنْ أَحَدِهِمْ إذَا تَصَدَّقَ بِهِ كَانَ أَفْضَلَ مِنْ جَبَلِ أُحُدٍ ذَهَبًا مِمَّنْ بَعْدَهُمْ " ، ثُمَّ إذَا كَانَ قَدْ صَدَرَ مِنْ أَحَدِهِمْ ذَنْبٌ فَيَكُونُ قَدْ تَابَ مِنْهُ ، أَوْ أَتَى بِحَسَنَاتِ تَمْحُوهُ ، أَوْ غُفِرَ لَهُ بِفَضْلِ سَابِقَتِهِ ، أَوْ بِشَفَاعَةِ مُحَمَّدٍ عليه الصلاة و السلام الَّذِي هُمْ أَحَقُّ النَّاسِ بِشَفَاعَتِهِ ، أَوْ اُبْتُلِيَ بِبَلَاءِ فِي الدُّنْيَا كَفَّرَ بِهِ عَنْهُ . فَإِذَا كَانَ هَذَا فِي الذُّنُوبِ الْمُحَقَّقَةِ فَكَيْفَ بِالْأُمُورِ الَّتِي كَانُوا فِيهَا مُجْتَهِدِينَ : إنْ أَصَابُوا فَلَهُمْ أَجْرَانِ وَإِنْ أَخْطَئُوا فَلَهُمْ أَجْرٌ وَاحِدٌ وَالْخَطَأُ مَغْفُورٌ لَهُمْ ؟ ثُمَّ الْقَدْرُ الَّذِي يُنْكَرُ مِنْ فِعْلِ بَعْضِهِمْ قَلِيلٌ نَزْرٌ مَغْمُورٌ فِي جَنْبِ فَضَائِلِ الْقَوْمِ وَمَحَاسِنِهِمْ مِنْ الْإِيمَانِ بِاَللَّهِ وَرَسُولِهِ وَالْجِهَادِ فِي سَبِيلِهِ وَالْهِجْرَةِ وَالنُّصْرَةِ وَالْعِلْمِ النَّافِعِ وَالْعَمَلِ الصَّالِحِ وَمَنْ نَظَرَ فِي سِيرَةِ الْقَوْمِ بِعِلْمِ وَبَصِيرَةٍ وَمَا مَنَّ اللَّهُ بِهِ عَلَيْهِمْ مِنْ الْفَضَائِلِ عَلِمَ يَقِينًا أَنَّهُمْ خَيْرُ الْخَلْقِ بَعْدَ الْأَنْبِيَاءِ لَا كَانَ وَلَا يَكُونُ مِثْلُهُمْ ، وَأَنَّهُمْ هُمْ الصَّفْوَةُ مِنْ قُرُونِ هَذِهِ الْأُمَّةِ الَّتِي هِيَ خَيْرُ الْأُمَمِ وَأَكْرَمُهَا عَلَى اللَّهِ تَعَالَى".
أكتفي بهذا القدر ، سائلاً الله أن يجعلنا من عباده الذين يصيبون هذه الليلة ويبلغون فيها رضاء الله .