وهي العبارات ذاتها التي بدت تنهال عليه من أصحاب المحلات أيضا ، فلم يجد مرة أخرى غير أن يستعين بالكذب بأنه كان مريضا بعض الشيء وكان بحاجة إلى راحة . مضت عشرة أيام كاد مزكين فيها أن ينسى ماحدث له ، لكن الرجل عاد وأفسد عليه كل حالة الهدوء التي ينعم بها عندما فوجئ به داخل السربيس في الساعة التاسعة ليلا حينما كان عائدا مع أبيه إلى البيت ، ومن جديد تسلطت عليه تلك النظرات دون أن تتركه لحظة واحدة ، أحس بضيق في التنفس وأنه سوف يختنق إذا لبث تحت شعاع هذه النظرات التي بدت ملتصقة به ، تخيل بأنه ينقض كالنسر ويمد إصبعين يفقأ بهما عينيه وفي أثناء ذلك رغب بقوة أن ينفجر : / لكن لماذا تنظر إلي / ؟! وأحس بأن الصوت خذله كما أن يده خذلته ، وبالكاد تمكن من أن يستدير إلى السائق ويطلب إليه الوقوف حالا وسط دهشة الركاب بما فيهم ذاك الرجل ووالده . وما إن وقف السربيس حتى نزل مزكين ولحقه أبوه في النزول ، ثم لحقهما ذات الرجل قائلا لأبيه : نزلت خصيصا حتى أساعدك إن كنت بحاجة إلى مساعدة ، يبدو أن ابنك متعب . فشكره السيد ريزان بحرارة ، ثم أردف الرجل : ياسيدي أنت لاتعرفني ، لكن لايوجد أحد في هذه المدينة لم يشرب من شايك الطيب ، عندما رأيت حال ابنك قلت بأنني سأنزل علك تحتاجني في شيء يا أبا مزكين . فعاد السيد ريزان يتشكره بحرارة بالغة على عرضه هذا . كان الرجل يتحدث وأنظاره لاتنزاح طرفة عين عن ريزان الذي شعر بأن هذا اليوم هو اليوم الأخير في حياته ، وأن هناك مَنْ أرسل هذا الرجل لينهي حياته بهذا الحرق في أعصابه ، فلم يملك من أمره غير أن يتجه صوب البيت ويجري بكل ما في جسده من قوة . وعندما وصل البيت ، جلس يسترد أنفاسه كأنه خرج لتوه من بئر ، ثم بعد لحظات بدأ يتقيأ ويضغط على بطنه وسط حالات تقيؤ شديدة ومتلاحقة وقد احمرت عيناه بشكل مفزع ، اتصلت إحدى أخواته بالإسعاف ، ولكن قبل وصول الإسعاف دخل أبوه لاهثا مع ذات الرجل ، وعندها لم يملك مزكين غير أن يغمض عينيه ويسد أذنيه ويستعين بكل حواسه بأنه نائم ولاأحد في البيت غيره . بعد قليل فتح عينيه عندما أحس بالأيدي تحمله فلم ير ذاك الرجل ، عندذاك أحس بنسمة منعشة سرت في عروقه وقال بأنه يشعر بتحسن ولايريد أن يذهب إلى المشفى ، فعادت سيارة الإسعاف فارغة من حيث أتت . في صبيحة اليوم التالي قرر أن يواجه الأمر وينزل إلى عمله لأنه أيقن بأن بقاءه لشهر متواصل في البيت لايفيد بشيء لأنه سوف يعود في النهاية إلى مواجهة هذا الرجل الذي قد يطرق في أي لحظة الباب ويدخل بحجة أنه يريد الاطمئنان عليه . غدا يراه في أماكن متفرقة وفي أيام متفرقة وتنهال عليه تلك النظرات المرعبة فيهرب منها قائلا للرجل : / لكن لماذا تصوب إلي كل نظراتك أينما رأيتني / ؟! وبذات الوقت فإنه لايريد أن يسمع الإجابة فيهرع تحت سياط تلك النظرات إلى أن تقع عليه مرة أخرى . وصار هاجسه الوحيد أن يعثر على مثل تلك النظرات الغرائبية في عينَي شخص آخر دون أن يجد فيتساءل في قرارة نفسه : ماالذي يريده مني ذاك الرجل وهو يلاحقني من مكان إلى مكان حتى أنه ذات مرة تشجع وقال له في الشارع : لماذا تنظر إلي ، أريد أن تجيب ، سوف أستمع إليك . بدت الدهشة واضحة على سحنة الرجل أمام عيني مزكين وبعد لحظات من الاتباك والصمت قال : أنا أيضا أسأل نفسي هذا السؤال أكثر منك ، لقد أفسدت علي حياتي ، أنت لاتعرف مدى معاناتي اليومية حتى آتي وأنظر إليك ، واليوم الذي لاأنظر فيه إليك لاأتذوق لحظة نوم واحدة . ثم انحدرت دموع من عينيه ومضى .
في اليوم التالي رآه مزكين يدنو إلى البراكية ولأول مرة يجلس على كرسي في الواجهة ويطلب فنجان قهوة ، قدم إليه مزكين ركوة القهوة وبدأ يصبها في الفنجان والرجل ينظر إليه ، ولبث مزكين واقفا قبالته مقررا أن يواجه مشكلته هذه وألاّ يهرب منها . صوّب مزكين نظرات إلى عينيه ، تشابكت النظرات لأول مرة في حالة من الصمت والذهول ، أحس مزكين بأنه يخرج جزئيا من كونه مزكين وتتلاحق أجزاؤه في أجزاء الرجل ، حتى أحس بأنه يخرج نهائيا من الواقع الذي هو فيه ويدخل إلى واقع مختلف لم يكن له عهد به ، ثم في لحظات أخرى من هذا الخروج أحس بأنه ربما كان قد رأى هذا الواقع في حلم بعيد . في هذه الأثناء لمح أبوه المشهد الغريب ، مزكين يقف قبالة الرجل الجالس وقد تشابكت أنظارهما ببعضها ، وكان بعض الزبائن يشاركون الأب النظر بذهول في هذا المشهد ، لكن الأب لم يحتمل أن يترك ابنه في ذاك الموقف فدنا إليه ووضع يده على كتفه قائلا وهو ينظر في الرجل : هذا أنا يابني . عندذاك أحس مزكين بأنه يخرج من ذاك العالم ويعود مرة أخرى إلى عالمه ، وللتو أدرك الدموع الغزيرة التي كانت تنهمر من عينيه ، وكذلك لمح ذات الدموع تنهمر من عيني الرجل الذي لم يلبث عندذاك أن نهض واختفى .
اختفى الرجل هذه المرة أطول فترة عرفها مزكين مذ أن رآه وفي وقت لن ينساه وعند الساعة العاشرة والنصف صباحا وبعد غياب ثلاثة شهور لمحه مزكين قادما من مدخل الشارع ، كان المطر قد هطل بغزارة منذ الليلة الفائتة وتحول منذ الثامنة وحتى العاشرة صباحا إلى ما يشبه الرذاذ الخفيف بعد أن غاصت الطرقات بالمياه الغزيرة . عندذاك أخذ الرجل يسير على الرصيف القادم إلى البراكية ونظراته تتقدمه إلى وجه مزكين الذي بدا هادئا ومستعدا للقاء هذا الرجل ، وتقدم الرجل بشوق ومزكين يهيء له كرسيا ليجلس عليه وقبل الوصول بعشرة أمتار غدا أمامه إما أن يترك الرصيف ويمشي في الطريق الغاص بالمياه الغزيرة أو يدخل الممر الضيق الذي واجهه بين الحائط وبين العمود الكهربائي الحديدي الضخم ، ولمحه مزكين يدخل الممر على جنب وماتزال أنظارهما تتشابك ، وفي أثناء ذلك لامس كفه طرفا من العمود الكهربائي الذي كان به ماس من جراء الرطوبة فانتفض الرجل كبركان ، ثم بعد لحظات سقط جسدا فاحما وسط المياه المتراكمة على الطريق كأنه لم يكن ذاك الذي يحمي نفسه من قطرات المطر قبل لحظات ، لم يصدق مزكين عينيه ، أو لم يكن يرغب في أن يصدق مارأى في هذه البغتة الخاطفة ، لكنه رأى أصحاب المحلات المجاورة يخرجون من محلاتهم بذعر ويتبادلون نظرات الاستياء والهلع فيما بينهم . عندذاك اندفع مزكين ينظر من بعيد ، كانت نظرة سريعة واحدة ، ومضى بخطوات ضائعة ناسيا نفسه تحت الرذاذ .